15:23:50

خسائر التراث الثقافي والتاريخي للعراق من الغزو الذي قادته الولايات المتحدة عام 2003

عشرون عاماً على عدوان تحالف الدول الغربية بقيادة واشنطن على العراق عام 2003، الذي خلف وراءه - بالإضافة إلى التدمير الكامل لأركان الدولة العسكرية والاقتصادية والاجتماعية للبلاد – وألحق أضراراً جسيمة بالإرث الثقافي والتاريخي. فبحسب قول سعيد إسكندر المدير السابق للمكتبة الوطنية والأرشيف في العراق، فإن "الكوارث التي حلت بالتراث الثقافي والفكري العراقي خلال سنوات الحرب تفوق الخيال".

أعمال السرقة والنهب في بغداد بدأت تنتشر على نطاق واسع بعد استيلاء القوات الأمريكية على هذه المدينة العريقة في 9 أبريل/نيسان 2003، بما في ذلك - فيما يتعلق بإعمال نهب المناطق الأثرية السياحية الرئيسية في العاصمة العراقية. وأكثر ما تضررت هي مؤسسات مجلس الدولة للآثار والتراث وكذلك المتحف الوطني العراقي والمكتبة الوطنية العراقية ومتحف هدايا حسين، وغيرها من المنشآت المهمة.

أياً كان الأمر فقد تم توثيق العديد من الحالات ومحاولات تهريب الآثار من قبل الجيش الأمريكي، وتم تهريب عدد كبير من القطع الأثرية طوال فترة الاحتلال، في الغالب من خلال النهب المباشر من قبل جنود وضباط التحالف أثناء أداء الخدمة في تلك المناطق. بما في ذلك بتكليف من المؤسسات المعنية ذات الصلة وهواة الجمع في الولايات المتحدة.

يشير الخبراء إلى حقيقة أنه من الاستحالة بمكان حتى يومنا هذا تحديد حجم الأضرار التي لحقت بالمتحف الوطني العراقي بدقة في عام 2003. إذ تعرضت سجلات الجرد، التي كانت في حالة سيئة قبل الحرب، للتلف الجزئي والضرر أثناء النهب. على كل حال هناك رقم تقريبي يقدر بـ 15 ألفاً من المعروضات المفقودة، حيث تم إعادة حتى الآن ما لا يزيد عن 6000 قطعة أثرية. علماً أن هذه القطع - بقدر ما يمكن للمرء أن يحكم من خلال المعرض الذي تم تنظيمه في عام 2021 - ليست الأكثر قيمة. لا تزال عملية الاسترداد جارية حتى الآن، ومع ذلك ليست جميع القطع التي أعيدت إلى المتحف الرئيسي للبلاد كانت مسروقة منه في عام 2003. إذ تم تهريب العديد منها بشكل غير قانوني من العراق في وقت لاحق وفي ظل ظروف أخرى.

بالاضافة إلى كل ذلك تم تدمير "بيت الحكمة" - المكتبة الشهيرة والمركز العلمي، التي تأسست على تراث مؤسسة مماثلة من زمن الخلافة العباسية. بالمناسبة، تم نهبها أثناء الاستيلاء على بغداد من قبل المغول في عام 1258.

الجرح الكبير كان في القصة الأكثر مأساوية التي تحكي عن تدمير المكتبة الوطنية العراقية ومحفوظاتها. لقد تعرضت كلها ليس فقط للسطو، ولكن لمحاولة تدمير الممنهج. علماً أنه عُرض فيما بعد إعادة بعض الوثائق المسروقة، لكن مقابل فدية، ومع ذلك لم تجد الحكومة العراقية الجديدة أنه من الضروري دفع المال للمبتزين. وما يدعو للأسف أنه تم تدمير المجلدات الأخرى عمدًا بالفوسفور الأبيض والخراطيم القوية.

بعد "زيارات" لهذه المنشأة من قبل المشاة الأمريكيين، تم غزوها من قبل اللصوص من السكان المحليين، لأن المحتل لم يهتم على الاطلاق بمسائل الحفاظ على القانون والنظام. لحسن الحظ تمكن أمناء المكتبات من لحام الباب المعدني لمخزن الكتب، لذلك لم تتضرر الكتب كما تضررت الوثائق الأرشيفية. ومع ذلك تم فقدان ما نسبته 25% من محفوظات الكتب، بما في ذلك الكتب النادرة، و60% من المحفوظات الأرشيفية، من بينها جزء من وثائق العهد العثماني والهاشمي، وكذلك جميع محفوظات خلال عهد الجمهورية.

في شهر نيسان\أبريل 2003، سحقت القوات الأمريكية مقاومة الجيش العراقي في مدينة الناصرية الكبيرة جنوب العراق وقامت وحدات المشاة البحرية باحتلال مبنى "متحف الحضارات" الذي يضم قسم التفتيش الأثري الإقليمي. لكن بعد مغادرتهم من هناك قام الموظفون بجرد للموجودات وتبين أن العديد المعروضات قد اختفت.

تم توثيق أكبر ضرر مباشر من وجود القوات الغربية في مدينة بابل التي تعد من أهم المدن القديمة في العراق من حيث التراث الأثري. خلال فترة الاحتلال تم تجهيز مهبط كبير للطائرات العمودية على أراضي هذه المدينة العريقة. ولتحقيق هذا الهدف تم هدم عدد من المعالم الأثرية، وبعد ذلك تم تهريب بعضها إلى الخارج. ولحماية القاعدة الجوية من قصف محتمل، استخدم الجيش الأمريكي عددًا كبيرًا من الحاويات التي ملأها بالتربة الأثرية، منتهكاً بذلك المحيط الأثري بالتماثيل.

لقد بذل علماء الآثار وعمال المتاحف والخبراء في حماية الممتلكات الثقافية من عدد من البلدان جهودًا كبيرة في محاولة لفت انتباه القادة العسكريين والمجتمع إلى هذه المشكلة. ومع ذلك لم يتم إزالة مهبط طائرات الحوامة فقط بعد مغادرة القوات الأمريكية.

مع توسيع القاعدة الجوية لقوات التحالف "طليل" بالقرب من مدينة الناصرية عام 2004-2005 تم تدمير بلدة إيريس – 13 القديمة بالكامل والتي تعود لبداية الألفية الثانية قبل الميلاد. إن تاريخ ترميم مباني ومرافق المؤسسات الثقافية والتاريخية العراقية بعد الحرب مليء بأمثلة على البطولة التي أبدها الموظفون المحليون. إذ أنهم كانوا يخاطرون كل يوم بحياتهم في محاولة لإنقاذ ما تبقى من المعالم الأثرية، حتى إن بعضهم في أوقات مختلفة قتل والبعض الآخر اختطف.

في هذا السياق أشار راسيل الذي خدم في الفترة 2003-2004 كمستشار ثقافي لسلطات الائتلاف المؤقت (إدارة الاحتلال) في العراق قائلاً: تم بيع عشرات الآلاف من الآثار من العراق علناً في السوق الأمريكية، ولا توجد حالة واحدة معروفة عن أن أجهزة إنفاذ القانون كانت مهتمة أو معنية بذلك.

تعد سرقة المواقع الأثرية وكذلك نهب المتاحف والمكتبات من قبل السكان المحليين، نوعًا خطيرًا من الجرائم التي تدمر الذاكرة التاريخية بشكل لا رجعة فيه. وبطبيعة الحال فإن اللوم كله في ذلك يقع بالكامل على عاتق سلطات الاحتلال. على الرغم من أن اللصوص أنفسهم كانوا في الغالب من مواطني العراق، إلا أن ظروف "عملهم" نشأت بسبب عدم تحمل أي مسؤولية من قبل قوات التحالف وعدم تنديد الدول الغربية بالأعمال غير الشرعية، مما تسبب في ارتفاع الطلب على القطع الأثرية القديمة.

ثم لم يكن هناك عملياً أي ملاحقة قانونية وإدانة أخلاقية لشراء قطع أثرية ذات تراخيص تصدير مزيفة أو عدم وجودها على الاطلاق. إن الفقر المدقع الذي أصاب السكان في ذلك الوقت وعدم كفاءة ضباط إنفاذ القانون العراقيين الذين تم تكليفهم حديثًا هو أيضًا من مسؤولية الولايات المتحدة وحلفائها.

مع بداية الحرب في عام 2003، اكتسبت قضايا النهب طابعًا وحشيًا لم يسبق له مثيل. فعلى سبيل المثال منذ أن أدى غزو قوات التحالف إلى انهيار الآليات الاقتصادية العاملة في العراق، انضم الفلاحون المعدمون إلى فئة جامعي الأموال والفقراء المحليين. فالذي حدث هو أن الحكومة القديمة التي كانت تشتري محاصيل هؤلاء الفلاحين لم تعد موجودة، في الوقت الذي لم تكن سلطات الاحتلال مهتمة في شراء هذه المحاصيل. وبالتالي أصبح السكان العاملون في القطاع الزراعي بلا مصدر رزق، ناهيك عن أنه من بين اللصوص كان هناك عمال محليون من الذين كانوا يمارسون أعمال الحفريات العلمية من الأجانب والعراقيين.

اليوم وصل عدد المدن والبلدات العراقية القديمة التي قام اللصوص بعمليات الحفر غير الشرعية فيها بالمئات. حيث تنتشر آلاف الحفريات غير القانونية في بقايا مدن ضخمة وتغطي مساحتها مئات الهكتارات، مع الاشارة إلى إنه تم تدمير بعض الآثار بالكامل ولم يعد البحث الأثري الجاد ممكنًا. كما يفيد أحد التقارير أنه من أصل 1457 موقعًا في جنوب العراق (تتراوح من القرى الصغيرة إلى المدن القديمة الكبرى)، تم نهب 597 إلى حد ما بحلول نهاية عام 2003. حتى إن الحفريات غير القانونية لا تزال جارية في بعض المواقع.

من الجدير بالذكر أنه حتى اليوم - مع توفر الأرباح الفائقة من بيع النفط - لا تتاح للعراق بشكل أساسي الفرصة لتنظيم حماية كاملة مع ترميم لاحق لجميع المواقع التراثية، والتي غالبًا ما تكون بعيدة عن الأماكن السكنية الكبيرة. في إشارة إلى أن مهمة حمايتها ودراستها (حتى لا يتم تدميرها) تتطلب جهودًا منسقة من المجتمع الدولي.

تمخض عن التدخل العسكري الأمريكي في عام 2003 سلسلة من العلاقات السببية التي أدت لاحقًا إلى ارتكاب داعش الفظائع في العراق بعد عام 2014. مع التأكيد على حقيقة إلى إن الباحثين المحليين والأجانب لم يتمكنوا إلى الآن حتى من حساب الضرر الذي تسبب فيه الإرهابيون على الصعيد الثقافي و التراث التاريخي للبلاد.